البراء بن مالك الانصاري رضي الله عنه
(مغوار المسلمين الباسل)
كان أشعث أغبر ضئيل الجسم معروق اللحم تقتحمه عين رائيه ثم تزور عنه ازوراراً .
ولكنه مع ذلك قتل مئة من المشركين مبارزة وحده عدا عن الذين قتلهم في غمار المعارك مع المحاربين .
انه الكمي الباسل المقدام الذي كتب الفاروق بشأنه الى عماله في الافاق : الا يولوه على جيش من جيوش المسلمين خوفا من ان يهلكهم باقدامه .
انه البراء بن مالك الانصاري اخو انس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو رحت استقضي لك اخبار بطولات البراء لطال الكلام وضاق المقام لذا رأيت ان اعرض لك قصة واحدة واحدة من قصص بطولاته تنبيك عما عداها .
تبدأ هذه القصة منذ الساعات الاولى لوفاة النبي الكريم والتحاقه بالرفيق الاعلى حيث طفقت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجاً كما دخلت في هذا الدين أفواجاً حتي لم يبق على الاسلام الا اهل مكة والمدينة وجماعات متفرقة هنا وهناك ممن ثبت الله قلوبهم على الايمان .
صمد الصديق لهذه الفتنة المدمرة العمياء صمود الجبال الراسيات وجهز من المهاجرين والانصاؤ أحد عشر جيشا وعقد لقائدة هذه الجيوش أحد عشر لوا ودفع بهم في أرجاء جزيرة العرب ليعيدوا المرتدين الى سبيل الهدى وليحملوا المنحرفين على الجادة بحد السيف وكان أقوى المرتدين واكثرهم عددا بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب .
هزم مسيلمة أول جيش خرج اليه من جيوش المسلمين بقيادة عكرمة بن ابي جهل ورده على أعقابه فأرسل له الصديق جيشا ثانيا بقيادة خالد بن الوليد حشد فيه وجوه الصحابة من الانصار والمهاجرين و كان في طليعة هؤلاء وهؤلاء البراء بن مالك ونفر من كماة المسلمين .
التقى الجيشان على أرض اليمامة فما هو الا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة واصحابه وزلزلت الارض تحت اقدام جنود المسلمين وطفقوا يتراجعون عن مواقفهم حتى اقتحم أصحاب مسيلمة فسطاط خالد بن الوليد واقتلعوه من أصوله . عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم وأدركوا انهم ان يهزموا امام مسيلمة فلن تقوم للاسلام قائمة بعد اليوم ولن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب .
وهب خالد الى جيشه فاعاد تنظيمه فميز المهاجرين عن الانصار وميز ابناء البوادي عن هؤلاء وهؤلاء وجمع ابناء كل أب تحت راية واحد منهم ليعرف بلاء كل فريق في المعركة وليعلم من أين يؤتى المسلمون .
ودارت بين الفريقيت رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيرا من قبل وثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى ثبات الجبال الراسيات ولم يأبهوا لكثرة ما اصابهم من القتل وابدى المسلمون من خوارق البطولات ما لو جمع لكان ملحمة من روائع الملاحم .
فهذا ثابت بن قيس حامل لواء الانصار يتحنط ويتكفن ويحفر لنفسه حفرة في الارض فينزل فيها الى نصف ساقيه ويبقى ثابتا في موقفه يجالد عن راية قومه حتى خر صريعا شديداً.
وهذا زيد بن الخطاب اخو عمر بن الخطاب ينادي في المسلمين :
ايها الناس عضو على اضراسكم واضربوا عدوكم وامضوا قدما ايها الناس والله لا اتكلم بعد هذه الكلمة ابدا حتى يهزم مسيلمة او القى الله فاد اليه بحجتي ثم كر على القوم فما زال يقاتل حتى قتل .
وهذا سالم مولى ابي حذيفة يحمل راية المهاجرين فيخشى عليه قومه ان يضعف فقالوا له :انا نخشى ان نؤتي من قبلك فقال :ان اتيتم من قبلي فباس حامل القران اكون ثم كر على اعداء الله كرة باسلة حتى اصيب .
ولكن بطولات هؤلاء جميعاً تتضاءل امام بطولة البراء بن مالك الانصاري رضي الله عنه وعنهم اجمعين.
ذلك ان خالدا حين رأى وطيس المعركة يحمى ويشتد التفت الى البراء وقال : اليهم يا فتى الانصار فالتفت البراء الى قومه وقال : يا اهل المدينة لا يفكرن احد منكم بالرجوع الى يثرب فلا مدينة لكم بعد اليوم وانما هو الله وحده ثم الجنة ثم حمل المشركين وحملوا معه وانبرى يشق الصفوف ويعمل السيف في رقاب اعداء الله حتى زلزلت اقدام مسيلمة واصحابه فلجأوا الى الحديقة التي عرفت في التاريخ باسم حديقة الموت لكثرة من قتل فيها ذلك اليوم .
كانت حديقة الموت هذه رحبة الارجاء سامقة الجدران فاغلق مسيلمة والاف المؤلفة من جنده عليهم ابوابها وتحصنوا بعالي جدرانها وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها فتتساقط عليهم تساقط المطر .
عند ذلك تقدم مغوار المسلمين الباسل البراء وقال يا قوم ضعوني على الترس وارفعوا الترس على الرماح ثم اقذفوني الى الحديقة قريبا من بابها فاما ان استشهد واما ان افتح لكم الباب .
وفي لمح البصر جلس البراء بن مالك على ترس فقد كان ضئيل الجسم نحيله ورفعته عشرات الرماح فالقته في حديقة الموت بين الالاف المؤلفة من جند مسيلمة فنزل عليهم نزول الصاعقة وما زال يجالدهم امام باب الحديقة ويعمل في رقابهم السيف حتى قتل عشرة منهم وقتل الباب من حيطانها وابوابها واعملوا السيوف في رقاب المرتدين ىاللائذين بجدرانها حتى قتلوا منهم قريبا من 20 الف ووصلوا الى مسيلمة فاردوه صريعا .
حمل البراء بن مالك الى رحله ليداوى فيه واقام خالد بن الوليد شهرا يعالجه من جراحه حتى اذن الله له بالشفاء وكتب لجند المسلمين على يديه النصر .
ظل البراء بن مالك الانصاري يتوق الى الشهادة التي فاتته يوم حديقة الموت وطفق يخوض المعارك واحدة بعد الاخرى شوقا الى تحقيق امنيته الكبرى وحنينا الى اللحاق بنبيه الكريم حتى كان يوم الفتح تستر من بلاد فارس فقد تحصن الفرس في احدى القلاع الممردة فحاصرهم المسلمون واحاطوا بهم السوار بالمعصم فلما طال الحصار واشتد البلاء على الفرس جعلوا يدلون من فوق اسوار القلعة سلاسل من حديد علقت بها كلاليب من فولاذ حميت بالنار حتى غذت اشد توهجا من الجمر فكانت تنشب في اجساد المسلمين وتعلق بها فيرفعوهم اليهم اما موتى واما على وشك الموت .
فعلق كلاب منها بأنس بن مالك اخي البراء فما ان رآه البراء حتى وثب على جدار الحصن وامسك بالسلسلة التي تحمل اخاه وجعل يعالج الكلاب ليخرجه من جسده فاخذت يده تحترق وتدخن فلم يأبه لها حتى انقذ اخاه وهبط الى الارض بعد ان غدت يده عظاما ليس لها لحم .
في هذه المعركة دعا البراء بن مالك الانصاري الله ان يرزقه الشهادة فاجاب الله دعائه وخر صريعا شهيداً مغتبطا بلقاء الله .
رضي الله عنه وارضاه .